19 نوفمبر، 2015

من يسابق هذا الرجل ؟!

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
فإنَّ أحد الإخوة من الفلبين يعمل سائقًا عند إحدى العوائل في الحي، ويصلي معنا في المسجد، وذلك في الأوقات التي يكون موجودًا فيها. فكنتُ أنظر إليه في بداية صلاته معَنا في هذا المسجد الذي أرفع الأذانَ فيه؛ كغيره من جماعة المسجد، يصلِّي ثم يَخرج.
ولكن بعد مُضيِّ فترة لفَت انتباهي حِرصُه العجيبُ على الصلاة ومحافظتُه على التَّبكير إليها، واستمراره على ذلك؛ حيث يأتي المسجدَ ماشيًا على قدَمَيه على بُعد 250 مترًا تقريبًا!
وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن تطَهَّر في بيته ثم مشى إلى بيتٍ من بيوت الله؛ ليقضيَ فريضةً من فرائض الله، كانت خَطْوتَاه إحداهما تَحطُّ خطيئةً والأخرى تَرفع درجةً)) أخرجه مسلم.
فيَدخل المسجدَ مع الأذان أو بعدَ الأذان بقليل، وفي بعض الأحيان إذا دخلتُ المسجد رأيتُه قد سبقَني، فلا يتأخَّر عن هذه الأحوال في الغالب.
وبعد أن يدخل المسجدَ يصفُّ في الصف الأول فيصلِّي السُّنة، فإذا فرَغ رفع يديه يدعو؛ حيث يستغلُّ وقت الإجابة الذي بين الأذان والإقامة، ثم يأخذ المصحف ويقرأ حتى تُقام الصلاة، وبعد الصلاة يأتي بأذكار الصلاة، ثم يُصلي السُّنة البَعديَّة، ويواظب على هذه الأعمال ويُلازمها دون فتور!
ومما أتعجب منه أيضًا أنه يبكِّر لصلاة الفجر في بعض الأيام! ومن نافلة القول أنني لا أذكر أن رأيتُه طوال هذه الفترة يَقضي شيئًا من ركعات الصلاة، فضلاً عن أن تَفوته الصلاة كلُّها.
وفي بعض الأحيان يَجلس بعد صلاة المغرب، ولا يخرج إلا بعد صلاة العشاء؛ يتلو كتاب الله وينتظر الصلاة، فلعلَّ الله يكتب له أجر المرابطة، ويَنال دعوة الملائكة.
ففي صحيح مسلمٍ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألاَ أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بَلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على الْمَكاره، وكَثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرِّباط)).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الملائكة تُصلِّي على أحدكم ما دام في مُصلاَّه ما لم يُحْدِث: اللهم اغفِر له اللهم ارحَمْه، لا يزال أحدُكم في صلاةٍ ما دامت الصلاة تَحبِسه؛ لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصَّلاة)).
الله أكبر! مَن يَسَّر له ذلك؟ ومن حبَّب إليه الصلاة؟ ومَن سهَّل له نقلَ أقدامه من مكان بعيد؟ إنه الله، الذي وفَّقه واختاره وأعانه ويسَّر له ذلك كله؛ ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 54].
فهنيئًا واللهِ توفيق الله له؛ فلم يَشغَله أيُّ شاغل عن الصلاة والتبكير إليها! بل ترَك كل شيء خلفَ ظهره، ويَمَّم وجهَه صوبَ بيت الله، يبتغي ما عند الله؛ لذلك فليَبشُر هو ومَن حذا حذْوَه بهذا الحديث العظيم:
ففي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو يَعلم الناس ما في النِّداء والصفِّ الأول ثم لم يَجِدوا إلا أن يستَهِموا عليه لاستهَموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصُّبح لأتَوهما ولو حَبْوًا)). ما أعظمَه من حديث!
أعمال يسيرة، نحن في غفلة عنها! لذا؛ أين أولئك الذين ثَقُلت عليهم الصَّلاة - وتهاوَنوا بها مِن هذا الحديث؟ فضلاً أن يُبكِّروا إليها! وإن حضَروا للصلاة أتَوها متأخرين، ربما أدركوا بعض ركعات الصلاة، أو قد تفوتهم الصلاة كلُّها، في مشهَدٍ هو إلى الخِذْلان أقرب، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
ومِن المواقف المؤثِّرة لهذا الأخ: أنه ذات مرَّة قُبيل الصلاة جاءني وهو حزين، فأخبرني بخبر وفاة زوجته! فعزَّيتُه وواسيتُه وحاولتُ تصبيره، وبعد الصلاة أخبرتُ بعض جماعة المسجد فعَزَّوه وواسَوه، بارك الله فيهم، وقد كان لِسَلامهم عليه وتعزيتهم أثرٌ طيب في قلبه.
وقد رأيتُ له مَحبَّة خاصة في قلوب جماعة المسجد؛ فكم رأيتُ بعضَهم يُسلِّم عليه سلامًا حارًّا، وبعضهم يدعو له ويَذْكره بخير؛ لِمَا يراه من مُحافظته على الصلاة.
تنظيف المسجد: حيث احتجنا في إحدى الفترات إلى مَن ينظِّف المسجد، فعرَضْنا عليه، فوافق، وبعد أن قلتُ له: إننا سنعطيك مبلغًا على ذلك، فقال بلهجته: "عبادة"! يَقصد أن تنظيفه للمسجد عبادة لا يَأخذ مقابلَها مالاً، ولكن لم نَقبل بذلك، بل اتفقنا معه على إعطائه مثل مَن يُنظِّف في المساجد.
ورغم أنه يعيش وحيدًا في غربته، وبعيدًا عن بلده وأهله، وكذلك فقده لزوجته، فإنَّني أرى فيه البِشْر والسُّرور وانشراحَ الصدر، وخصوصًا عندما أُمازحه وأسأله عن حاله وبلده، ولعلَّ هذا من آثار محافظته على الصلاة.
فهذه حاله وهذه عبادته وهذا اجتهاده خلال سنوات، مع أنه لم يَلزَمه أحد، فبيتُه بعيد، فلو غاب عن المسجد لم يَعلَم به أحد، فضلاً عن أن يُبحث عنه؛ ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ [الأحزاب: 23]. فلم يُحرِّكه واللهِ إلاَّ الإيمانُ الذي في قلبه، ومحبةُ الخير ومُسابقتُه إلى الفضائل، والتَّزوُّد من الطاعات، نسأل الله الكريم من فضله.
ولعلَّ في ذكرِ شيءٍ من أخبار هذا الرجل الصالح ما يُشجِّع على الاقتداء به في التبكير إلى الصلاة.
فهل تستطيع أن تسابق هذا الرجل؟ فمُنادي الله يُنادي في اليوم خمسَ مرات، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ولو يَعْلَمون ما في التَّهجير لاسْتَبَقوا إليه)) فاستعن بالله ولا تعجز، واسأَلِ الله أن يُعينك على التبكير إلى الصلاة، وأكثِرْ من الدعاء العظيم: ربِّ أعنِّي على ذِكرك وشكرك وحسن عبادتك.
وسارِع ونافس وسابِق هذا الرجلَ وأمثاله ممن منَّ الله عليهم في السبق إلى الخيرات والتبكير إلى الصلاة، وشمِّر عن ساعد الجد، وانفُض غبار الكسل! وزاحِم في ميدان الخير : ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].
وواظِبْ على الطاعة؛ حتى تنال مغفرة الله وجنَّةً عَرضها كعرض السماء والأرض؛ ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
قبل أن يُباغتَك الموتُ وأنت في غفلتك وتفريطك! فتتمنَّى أنك لو استعددتَ للموت قبل نزوله، فتزوَّدتَ من الصالحات، وحافظتَ على الصلوات، ولكن هيهات هيهات! ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100].
فتدارك أمرَك واجتهد ما دمتَ في زمن المهلة، وتب إلى الله وجدِّد التوبة في كل وقت، وأكثِر من الاستغفار، وتقرَّب إلى الله بكل ما يُرضيه، وابتعد عن كلِّ ما يُسخطه؛ لعلك تنجو يوم القيامة: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].
أسأل الله أن يُثبِّت هذا الأخَ الفلبينيَّ الذي أحبَبْناه في الله، ويَزيدَه مِن واسع فضله.
وأسأل الله أن يوفِّقنا للتَّبكير إلى الصلاة، ويُعينَنا على ذِكره وشُكره وحسن عبادته؛ اللهم آمين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لـ البجيدي الاسلامية ©