12 نوفمبر، 2014

لا تذموها ولكن

قال يحيى بن معاذ الرازي : " الدنيا خزانة الله فما الذي يُبغض منها ، وكل شيء من حجر أو مدر أو شجر يسبِّح الله فيها. قال الله تعالى : " وإن من شيء إلا يسبح بحمده " ، وقال الله تعالى : " ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " ، فالمجيب له بالطاعة لا يستحق أن يكون بغيضا في قلوب المؤمنين " .
فليس المطلوب منك سب الدنيا أو الهرب منها بل الواجب عليك : تحقيق الزهد ، والزهد في أبسط صوره ومعانيه أن تحوز الدنيا في يدك لا في قلبك ، وأن تملكها لا أن تملكك ، وأن تضحي بها في سبيل آخرتك لا أن تبيع الآخرة من أجلها ، وأن تطلب الآخرة بالدنيا لا أن تطلب الدنيا بالآخرة ، وأن تفرِّغ قلبك مما خلت منه يدك ، ويبشِّرك عندها بحسن العاقبة الدنيوية والأخروية يحيى بن معاذ فيقول :
" الدنيا أمير من طلبها ، وخادم من تركها ، الدنيا طالبة ومطلوبة ، فمن طلبها رفضته ، ومن رفضها طلبته ، الدنيا قنطرة الآخرة فاعبروها ولا تعمروها ، ليس من العقل بنيان القصور على الجسور ، ومن طلَّق الدنيا فالآخرة زوجته ، فالدنيا مطَلَّقة الأكياس ، لا تنقضي عدتها أبدا ، فخلِّ الدنيا ولا تذكرها ، واذكر الآخرة ولا تنسها ، وخذ من الدنيا ما يبلِّغك الآخرة ، ولا تأخذ من الدنيا ما يمنعك الآخرة " .
وما يعين قلبك على التشبع بالزهد : المقارنة العابرة بين الدنيا والآخرة كمَّا وكيفا ، فالدنيا أيام قلائل معدومة في مواجهة خلود لا آخر له ، والدنيا نعيمها متنغص ، إن أضحكت اليوم أبكت غدا ، وإن سرَّت تبع سرورها الردى ، وإن حلَّت فيها النعم جميعا نزلت فيها النقم سريعا ، إن أخصبت أجدبت ، وإن جمعت فرَّقت ، وإن ضمت شتَّتت ، وإن زادت أبادت ، وإن أسفرت أدبرت ، وإن راقت أراقت ، وإن عمَّت بنوالها غمَّت بوبالها ، وإن جادت بوصالها جاءت بفصالها ، غزيرة الآفات ، كثيرة الحسرات ، قليلة الصفا ، عديمة الوفا ، ومن لم يتبصر في أمرها اليوم عضّ يديه غدا ، وبكى مع الدمع دما ، بل وحتى من ملك أقصى نعيمها .. أتظنونه قد استراح؟! كلا والله ..
أرى من الدنيا لمن هي في يديه ** عذابا كلما كثُرت لديه
تهين لها المكرمين لها بذل ** وتُكِرم كل من هانت لديه

وأين كل هذا من الآخرة ونعيم الآخرة ولذة الآخرة وخلود الآخرة؟!
وبعد الإحاطة بالزهد علما تنزل إلى ساحة الجد عملا ، وممارسة يومية ومشقة نفسية ، والنفس على ما عوَّدتها نشأت ، وكيف ما ربيتها نمت وترعرت ، ولذا لما قيل هذا المعنى شعرا على لسان أبي ذؤيب الهذلي :
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها ** وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تقنع
قال الأصمعي : " هذا أبدع بيت قالته العرب " .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لـ البجيدي الاسلامية ©